الانتحار كلمة يُرعب لفظها، ويؤلم وقعها وتُحزن آثارها، ولا يقدم كامل عقل وإرادة على ارتكاب جرمها، بل من أُصيب عقله وسلبت إرادته هو من يفعل ذلك ليخلف وراءه أحزاناً وجرحاً لا يندمل وقتامة مشهد تفوق الوصف.
والانتحار ظاهرة ظلت تهدّد المجتمع الإنساني في كثير من أجزاء المعمورة؛ لا سيّما في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. وفي كل عام يفوق عدد الأشخاص الذين يموتون انتحارا عدد الوفيات منهم بسبب فيروس الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي أو حتى الحرب والقتل.
وسعياً لمنع الانتحار اعتمدت الأسرة الدولية يوماً عالمياً خاصاً لمنع الانتحار تحتفل به شعوب العالم كل عام بين العاشر والثاني عشر من أيلول /سبتمبر، يهدف إلى التوعية بمضار الانتحار وإذكاء روح التفاؤل بمستقبل مشرق للبشرية خاصّة وأن التقارير تشير إلى أن معظم ضحايا الانتحار من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الـ15 – 29 عاماً، منظمة الصحة العالمية أشارت في تقريرها الأخير بأن عدد الذكور الذين يلقون حتفهم بسبب الانتحار يزيد بأكثر من مرتين عن عدد الإناث (12.6 من كل 100,000 ذكر مقارنة بـ 5.4 من كل 100,000 أنثى).
وأسباب الانتحار تتعدد ووسائله كذلك ولكنها تتّفق في أنّها مأساة إنسانية وموت سريع. والمطلوب من المجتمعات الإنسانية أن تعي دورها تجاه أفرادها وتعمل على توفير البيئة الصحّية السليمة والاستقرار النفسي والمادّي، وغرس القيم الإنسانية النبيلة في المناهج الدراسية والتربوية، فالغرض من الاحتفال هو حشد المجتمع الإنساني وتوظيف طاقاته لدرء هذا الخطر المستمر رغم كلّ ما بذل له من منظمة الصحة العالمية وغيرها من ذوي الاختصاص.
إنّ الاحتفال باليوم العالمي لمنع الانتحار ليس الهدف منه ذكرى نكرّرها كل عام ونردّد شعاراتها، وإنّما غايته التنبيه لكارثة إنسانية ما فتئت تحصد الآلاف من بني البشر يوماً بعد يوم، ووقودها الشباب من الرجال والنساء. ففي الاحتفال باليوم العالمي لمنع الانتحار رسالة لشعوب العالم؛ غنيّها وفقيرها أن تعمل ما في وسعها على إزالة أسباب الانتحار، وتبعث في وسائلها التوعوية الطمأنينة والبشرى بمستقبل أفضل، كما أنّ فيه دعوة للدّول والشعوب في كافة بقاع الكرة الأرضية بأن تجعل حدّاً فاصلاً للمخدرات وتغييب العقل والهروب من الواقع بما يقود للانتحار، ولابدّ من التأكيد على أن الانتحار جريمة إنسانية لا تقرّها أديان سماوية ولاعرف إنساني ويخلّف آثاراً سيئة في مستقبل الأسرة ومأساة لا تسد، فالمنتحر يعتبر متطرّفاً لأنّه ينظر في واقعه من زاوية واحدة وحادّة لا تتوفر فيها مرونة لازمة فيُسدّ أفقه وينتحر، لذلك لابدّ في يوم الاحتفال العالمي لمنع الانتحار من تعزيز الاعتدال في الحياة وجعله
منهجاً لضمان حياة آمنة يسودها الإطمئنان والتفاؤل، حبذا لو تمثّلنا قول الشاعر:
تمتّع بالصبح ما دمت فيه ولا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أصاب رأسك همٌّ قصّر البحث فيه كي لا يطولا
معهد جنيف لحقوق الإنسان إذ يشارك في الاحتفال باليوم العالمي لمنع الانتحار، يؤكد على أن الانتحار جريمة لا تقرّها الشرائع السماوية ولا الأعراف الإنسانية والدولية، وظاهرة مأساوية يجب العمل على مواجهتها بكل الوسائل مما يلقي بالمسئولية على عاتق كل مكونات المجتمع الإنساني من مسئولين وتربويين ودعاة ورجال دين وغيرهم. ومعهد جنيف لحقوق الإنسان إذ يحتفل بهذا اليوم يتطلّع إلى تحقيق مجتمع معتدل متوازن يتقبّل تقلبات الزمان بصدر رحب وعقل كبير.
ويناشد المعهد الدول والشعوب والمنظمات الإنسانية العاملة في مجال الصحّة أن تضاعف جهودها وتبذل كل ما من شأنه إيقاف تمدّد ظاهرة الانتحار في أوساط الشباب من الجنسين. ونحن في معهد جنيف لحقوق الإنسان يقلقنا الفراغ الروحي والمادي الذي يعانيه الكثير من الشباب فيلجأون إلى استخدام المخدّرات والكحول والإدمان باعتبارها أقوى أسباب الانتحار، عليه فدعوتنا للحكومات والشّعوب بإتباع الإرشادات التي وضعتها منظمة الصحة العالمية بشأن تنفيذ نهجها في الوقاية من الانتحار بعنوان "عش الحياة"، وتشتمل على أربع استراتيجيات رئيسية، أولها تقييد الوصول إلى وسائل الانتحار وتثقيف وسائل الإعلام بشأن الصياغة المسؤولة للتقارير عن الانتحار؛ وتعزيز مهارات الحياة الاجتماعية-العاطفية لدى اليافعين؛ والتعرف المبكر على حالات تبدي أفكارا أو سلوكا انتحارية وتقييمها وإدارتها ومتابعتها.
جنيف 12 سبتمبر 2021م
Comments